ملنيل ع الآخر
منصــــــــــة الكترونيـــــــــة تناقـــــــــش موضوعــــــات جيـــــل الملنــيل بنيــــــلة
كارت أحمر جدا
كتابة: تامر حميد
رسوم: حازم كمال
هذه المباراة سخيفة جدا، وهذا الجمهور أكثر سخافة، وهذا الرجل الذي يجلس بجواري أسخف وأسخف، ولهذه الأسباب لا أستطيع الاستمتاع بوقتي هنا.
فريقي المفضل – بما إنني لا أعرف فريقا غيره – لا تكاد أقدام لاعبيه تُرفع عن أرضية الملعب الجرداء، ومع كل خطوة تتراقص حول أجسادهم تلك الترهلات العجيبة، ويتعثر بعضهم من وقت لآخر في لحاهم المعفَّرة، وخمَّنت أنهم لا يرتدون أحذية رياضية، حتى اكتشفت أنهم لا يرتدون أحذية من الأساس!
أجاهد – رغم ذلك – لمشاهدة المباراة، وأنا أضع أملي الألف في الفوز هذه المرة، وأقاوم أصوات الجماهير العالية، تلك الأصوات التي تؤثِّر- من ضخامتها – في قدرتي على الرؤية، وكأنهم فتحوا الأبواب لكل من يهتم ولا يهتم بل ويكره هذه اللعبة القديمة ليدخل، حاملا معه أدوات الإزعاج التي يجيد كل فرد استعمال نوع منها، والنتيجة بالطبع – مع مستوى فريقي الذي لا يعرف له مثيل – هي المزيد والمزيد من العصبية والصراخ، من يهتم باللعبة يكاد يموت حنقا وغيظا، ويعبر عن إحساسه ذلك بكل ما يختزنه من مفردات الاستنكار التي تتطور عند البعض لتصل لحد السباب البذيء، أما من يكره اللعبة فيتهكم ويستهزئ، ويصل الأمر بهؤلاء أيضا إلى تلك الدرجة المشينة من التعبير، فتزداد أمام أذني حصيلة الألفاظ النابية التي تخترق طبلتي هاتين الأذنين دونما استئذان، مهما وضعت من حجب وأستار وسدود، ويتطور الأمر بهؤلاء أحيانا ليفتعلو المشاجرات مع غيرهم ممن يتابع سير الأحداث، وغالبا ما تُجهض هذه المشاجرات قبل اندلاعها، عدا بعض المناوشات الصغيرة التي تحدث من آن لآخر، والتي يتطوع الحاضرون ممن لا يهتمون أساسا باللعبة لإنهائها، والمحصلة النهائية لكل هذا هو أنك تشعر أن قامتك تُختزل تحت وطأة هذه الكمية الضخمة من الأصوات المجسَّمة شكلا ومضمونا.
كان من الممكن أن أحتمل كل هذا، في مقابل أن أحظى بلحظات قليلة أمتع فيها ناظريَّ بركلة جيدة أو مهارة ما بقدميّ أي برميل من أولئك الذين يتدحرجون بالأسفل، ولكن، ما دق المسمار الأخير في نعش صبري هو هذا اللوح الثلجي الذي يحتوي الكرسي بجواري، إنه يتابع بهدوء حسدته عليه في البداية، ثم سعدت به جدا لأنه وفَّر لي مساحة من الصمت، ولكنه حطَّم كل آمالي التي خلعتها وعلقتها عليه عندما بدأ يتكلم، لقد كانت كل جملة تعصف بي أكثر من مجموع ضرب كل الأصوات من حولي في عدد هذا الجمهور:
– لن يستطيع تجاوز هذا اللاعب.
– سترتطم الكرة بالقائم.
– بعد تمريرتين ستخرج الكرة من الملعب.
– خلال هذه الهجمة سيُطرد هذا اللاعب.
– سوف يتغاضى الحكم عن عرقلة لاعبنا بعد قليل.
“ستنقلب الهجمة ضدنا ويحرزون هدفا”.
كانت هذه هي القاصمة، صرخت فيه بكل ما أملك من قوة وغيظ، وبكل ما يشتعل ويموج في صدري من إحساس بالضيق والاشمئزاز واليأس :
– أريد أن أتابع المباراة .. لماذا لا تلتزم الهدوء وتتوقف عن سرد الأحداث قبل وقوعها ؟! اصمت.
ما إن انتهيت من الصراخ حتى فوجئت بصدى آخر حرفين يتلاشى رويدا رويدا، ثم ران بعدها صمت قوي جدا، إذ يبدو أنني أطلقت في فضاء الملعب كل الأصوات التي اختزلتها أذناي منذ اعتدت رؤية هذه المباريات وتشجيع هذا الفريق، فأصبح صوتي أعلى من صوت كل شيء حولي.
اتجهت كل الأعين نحوي، حتى أولئك الذين في الملعب، خرجت عيون الجميع من محاجرها واقتربت مني لتتأملني طائرة حولي، وكعادة ذلك السخيف، أشار لهذه العيون وعيناه نصف مغمضتان :
لا عليكم .. استمروا فيما أنتم عليه .. فهو لم يشاهد هذه المباراة من قبل.
انفجرت كل الأعين ضاحكة، ولم أشعر بنفسي إلا وأنا ملقى خارج الملعب وبجواري نظارة ومجموعة من أشرطة الكاسيت عليها مباريات العام القادم.