معرض قذيفة.. سرعة قذف فني

الملنيل

مراجعة: فاطمة الزهراء

 

كنت رايحة المعرض بفكرة وإنطباعات مسبقة، عن المكان، الكيوراتورز، الفنانين المشاركين، الحدث/ الموضوع الأكبر، رأيي في الاشتباك السريع معاه..

“بتعملوا إيه يا جماعة!”

 

كفنانة مسرحية وعاملة بالإدارة الثقافية؛ دايما بكون مشغولة بطريقة وسياق وتوقيت التماس والتفاعل مع اللي بيحصل حوالينا.. مع الجمهور.. مع الأماكن.. مع السياقات والأطر الأنثروبولوجية المتغيرة.

وبتدور في بالي تساؤلات:

هل كان في شئ إضطراري يلزم إننا نعمل معرض حالًا عن أحداث بتحصل بقالها شهر واحد فقط؟

منقدرش ننكر سياق إن الأحداث دي قديمة وممتدة لأكثر من ١٠٠ سنة، لكن يبقى السؤال: هل ضروري أو بمعنى أدق هل واجب على الفنان التعبير الوقتي عن مشاعره ومواقفه تجاه ما يحدث حوله؟ هل التعبير دا ممكن يكون بصور تانية غير فنه؟ زي الامضاء على بيان مشترك أو كتابة بيان أو حتى بوست على منصات السوشيال ميديا المختلفة؟ 

إمتى الفنان بيقرر ينتج عمل فني يتبنى رأيه السياسي والإنساني؟ وإزاي أنا كمتلقي أقدر أحكم على العمل دا وهو يحمل معاني كبيرة ومهمة وعميقة لدى الفنان صاحبه؟ بدون ما أكون بقلل من مشاعر وأفكار الفنان تجاه القضية أو أقلل من أهمية القضية ذاتها.

 

هل الفنان لازم يشتبك؟ ولو قرر يشتبك؛ شكل الإشتباك دا هيكون عامل إزاي؟ وإمتى؟ وفي أي سياق؟ وتفاعلات الجمهور مع الاشتباك دا المفروض تكون عامله إزاي؟

 

اتعلمت إن الفنان المشبتك الذكي هو الغير متسرع، ممكن يعبر عن رأيه بطرق مختلفة لكن التعبير بفنه بيتقل عليه شويتين. معظمنا شهد بدأ وقت الثورة المصرية، شفنا جودة الأعمال اللي اتعملت وقتها وكانت بتتكلم عن الحدث في عزه، وشفنا بعدها قد إيه الآراء اتغيرت مع الفهم الأعمق للي كان بيحصل.. ويمكن لسه الآراء تجاه نفس الحدث دا بتتطور لحد دلوقتي بعد أكتر من ١٠ سنوات على حدوثه، لأننا لسه بنعيش تبعاته اللي مش عارفين هتكمل لحد امتى.

طب هل دا يعني إن ما يخالف ذلك هو رعونة فنية؟ مظنش برضه.. مش لدرجة الرعونة يعني..

 

الموضوع صعب

وله أكثر من بُعد ووجه ويحتمل أكتر من زاوية للنظر والحكم.

 

من أيام قليلة حضرت افتتاح معرض “قذيفة” بمدرار للفن المعاصر، المعرض تنسيق الفنانين محمد علام وهاني راشد.

 

الأعمال الفنية المعروضة مختلفة الوسائط، متباينة المستويات. من بين ٣٩ فنان وفنانة ومنتجاتهم المختلفة؛ مقدرتش أشوف في المعرض رابط تقييمي وتنسيقي غير الموضوع أو السمة العامة طبعًا اللي عن القضية الفلسطينية، حتى اختيار أماكن عرض الأعمال وترتيبهم من وجهة نظر “تجربة المتلقي أو زائر المعرض” مكانش واضح لها منطق أو دراما معينين في رأيي.

معرفش كتير عن الكواليس، لكن من الصور اللي تم نشرها على حساب مدرار على انستجرام قدرت أفهم إن في أعمال كتير اتنفذت قبل المعرض بأيام قليلة جدًا. ودا يرجعني تاني لتساؤل: طب ليه مستعجلين؟

يعني متفهمة لو كفنان حسيت بشئ ما وارتئيت إن وسيلة التعبير المثلى عنه هي إنك تنتج عمل فني ما.. تمام.. هايل جدا. لكن ليه مضطر تنتج مخصوص لحدث مخصوص طالما محستش إنك عايز تعمل دا من الأساس؟

أغلب الأعمال كانت محاكاة للصدمة، ومقدرتش افهم ليه بتصدر دا لجمهورك المستهدف اللي متبني نفس رأيك! 

يعني ممكن أفهم عمل الفنان أمير عبد الغني مثلا لو بيتعرض في دولة أوروبية بنطلب تعاطفهم وصوتهم للقضية، لكن ليه بتعرضلي دا كمصرية/ عربية بشوف الصور والفيديوهات الأصلية للجرايم الوحشية وبالفعل داعمة ومتعاطفة.

الحقيقة في كتير من الأعمال حسيت إن المعرض موجه للمواطن الأبيض كمتلقي مش ليا كمصرية، بس يعني معذورين برضه.. كلنا غصب عننا وبشكل لا واعي اتعودنا نفكر للفاند لحد ما يجي ولما بيجي بنعمل للفاند.. من الفاند وإليه نعود!

 

مفهوم إن الفن أحيانًا كممارسة وفي سياقات معينة بيكون له تأثير تطهيري وعلاجي، هل دعوة إقامة المعرض دا كانت بهدف إن الفنانين يخرجوا مشاعرهم في أعمال معظمها “نص سوى” بهدف العلاج النفسي من خلال التعامل مع المشاعر دول والتعبير عنهم؟

يعني لو كدا فتمام.. هايل جدا برضه!

 

رخص/ ابتذال/ استغلال للتريند/ أو لا سمح الله كرينج

المعرض إجمالا مش مبتذل ومش رخيص ومن معرفتي بالمكان ومنسقين المعرض ومعظم الفنانين المشاركين أقدر أقول أنه بعيد عن ما يكون استغلال واستخدام للقضية الفلسطينية كتريند، لكن بالمشاهدة التفصيلية للأعمال الفنية ففي بعض الأعمال يمكن أن توصف بالكرينج.. زي العمل دا:

الجزء الأحمر من علم فلسطين ينزف على الأرض! وكإنها رسم كاريكاتوري للفنان الاجنبي الكرينج كارلوس لاتوف اللي كان بيرسم كتير وقت الثورة المصرية الأخيرة.

 

هناك أعمال أخرى -بمعرفتي بأعمال فنانيها السابقة- ممكن أقول إنها أعمال “مقلوبة”، طب ليه؟ هل في حاجة ماسكانا يعني؟ لو معملتش العمل دا هيقولوا اللي مشاركش في معرض فلسطين أهو!

 

وعلى صعيد آخر؛ وهنا دا رأيي كفنانة إنه “طب وماله!” ما يمكن العمل المقلوب أو المسلوق دا هو اللي بيعبر عن اللي أنا حاسه دلوقتي، هو دا المستوى والجودة اللي قادر أطلعهم في الوقت الصعب دا.

 

وهناك أعمال تانية لفنانين واعدين تلاميذ الفنان هاني راشد، اللي بتمنى إنهم يلاقوا أسلوبهم الفني بعيدا عن أسلوب راشد، في معظم أعمالهم اللي شفتها في أكتر من معرض جماعي قريب، بحسها محاولات لتقليد أسلوب راشد الأصلي، لكن دا مفهوم لمنتجات فنانين في بدايتهم الفنية وعادي إنهم يكونوا متأثرين بأستاذهم وملهمهم.. بس خلاص كفاية بقى! 

 

صور الفنان علي زرعي مقدرتش افهم اختيار عرضها بالمعرض بالمرة، وولدت تساؤل تاني عندي: ليه المنسقين اختاروهم وليه وإزاي زرعي شاف إنها ممكن تاخد فرصة عرض أكبر من إنها تكون تجربة مناسبة لحسابه على منصة انستجرام!

إيه مدلول تواجد الصورة دي في سياقها.. ما بين السوشيال ميديا والمعرض؟

على صعيد تاني؛ طريقة العرض البسيطة من طباعة فوتوغرافية بحجم صغير وبدون برواز كان عامل مهدئ وطريقة مناسبة لعرض الصور، لأنه يعني مفيش داعي لتكبير الموضوع أكبر من كدا.



ونيجي بقى للكلام المهم، كلام المقيمين ع المعرض.. لمعرفتي القديمة والعميقة بالفنان محمد علام – مؤسس ومدير “مدرار” وأحد منسقي معرض “قذيفة”؛ أعرف كويس موقفه من الاشتباك السريع مع الأحداث الحالية، وتخوفه المنطقي من أن يوصف هذا الاشتباك بأحد الأوصاف السابقة. لذلك قررت أتكلم معاه بعد المعرض..


  • يا علام! كلمني الفكرة جت إزاي؟ ورحلة التنفيذ؟

الفكرة جت من خلال لقاء رانيا عزت وهي فنانة مصرية صديقة هاني راشد وهي صاحبة فكرة المعرض، وهاني تواصل معايا وسألني إيه رأيك لو نعمل معرض عن فلسطين واللي بيحصل، بصراحة ترددت شوية، لأن مكنتش بحب اشتغل على النوع دا من المشاريع في مدرار.. إنه ناخد قضايا اجتماعية وسياسية وإنسانية ونشتغل عليها بشكلها المباشر، أكيد طبعا متضامنين قلبا وقالبا.. أنا ومدرار وكل الفريق، لكن في حتة الفن بحس إن الموضوع بيكون حساس شوية، بس في الآخر قررت إنه يالا بينا نعمل المعرض، حسيت إنه اللي بيحصل حوالينا وحالتنا النفسية وفكرة العجز القوي جدا اللي إحنا فيه خلاني أقول إن دي أقل حاجة أو يمكن دي الحاجة الوحيدة اللي قادرين نعملها بإننا نشارك بصوتنا كمدرار وكفنانين وكمنظمين ونقول إن مهم نعمل حاجة بتبين هذا الصوت وهذا الرأي وهذا التضامن.

 

بدأنا أنا وهاني نشتغل على الموضوع واقترحنا اسماء فنانين هو كان شايف إنهم اوريدي بيشتغلوا على أعمال لها علاقة بالقضية من أول ما بدأت الأحداث.

قسمنا الشغل بيننا وتواصلنا مع الفنانين ومعظمهم كانوا بيستجيبوا ودا كان مشجع في ظل إن مكنش في دعم للمعرض، المعرض كله بيتعمل بشكل تطوعي، الفترة اللي طلبنا فيها الشغل من الفنانين كانت تقريبًا أسبوعين أو أكتر شوية.. فهي فترة قصيرة إن حد يكون جاهز وبيبعت شغل وكدا، بس بشكل كبير معظم الشغل تم إنتاجه مخصوص للمعرض، وبعض الأعمال قديمة.. اتعملت من سنين فاتت.. ممكن نقول من ١٠ لـ ٢٠ ٪ من المعرض أعمال قديمة وباقي الأعمال منتجة حديثا سواء للمعرض مخصوص أو للفترة الحالية بشكل عام.


  • الحقيقة كزائر للمعرض؛ مقدرتش اربط بين الأعمال المعروضة غير في الموضوع العام بالطبع، فعايزاك تكلمني شوية عن وجهة نظرك ككيوريتور للمعرض
  • وإيه المعايير اللي حطيتها إنت وهاني راشد وإنتوا بتختاروا الأعمال؟ ومن الأول؛ بناء على أي معايير اختارتوا الفنانين اللي شاركوا في المعرض؟

خلينا نقول إنه كان الهدف الأساسي هو مناقشة القضية وإن يكون الأعمال بتتكلم عن فلسطين بشكل واضح وصريح لأن دا هدف المعرض. طبعا كان في صراع قد إيه العمل قوي.. قد إيه العمل ناضج.. قد إيه العمل فيه فكرة إبداعية قوية بس في الآخر كان مهم إننا نتغاضى عن حاجات كتير دايما بنفكر فيها لما بنيجي نشتغل على معرض في إنه شايفين إن مهم إن وجهة النظر توصل بشكل واضح وشكل مباشر للجمهور لأن المعرض هو statement أو بيان أو عرض صوت ورأي معين له علاقة بالقضية وبغزة تحديدا وبالعنف وبالتهجير وبالإبادة أكتر منه عرض أعمال فنية بالمعنى التقليدي. ولكن الحقيقة أنا شايف إنه في كتير من الأعمال أعمال كويسة معمولة بشكل كويس وناضج وبصراحة شايف إن المعرض بشكل عام مهواش ساذج.. يعني على المستوى الفني والمستوى الإبداعي فيه مساحة كبيرة من الرؤى المختلفة للأعمال الفنية المعاصرة.


  • ليه معرضتش عمل من أعمالك القديمة أو أنتجت عمل جديد للمعرض؟

كنت أحب أعرض شغلي لكن مش بفضل أعمل دا في مدرار لتعارض المصالح، حاسس إنه في حالة زي كدا كان ممكن يكون في استثناء واحب اعرض شغلي لكن للأسف مكنش عندي وقت ومكنش عندي أفكار أو مساحة أنتج وكنت مكرس وقتي ومجهودي إني أنظم المعرض.




وأخيرا؛ أفضل الأعمال في وجهة نظري في المعرض:

 

المركز الأول كان من نصيب “عبد الرحمن علام”

منتجات علام الفنية على طول ذكية بالنسبة لي، علام مهاري جدا وصنايعي شاطر في التعامل مع الأدوات والمواد، ودايما ذكي ومبتكر في تطويع الوسيط اللي بيستخدمه للفكرة اللي عايز يعبر عنها.

 

“محمد مغربي”

فيديو مغربي كان مبهر، لأنه في رأيي كان الفنان الوحيد في المعرض بأكلمه اللي قدم عمل مختلف عن أعماله السابقة، بنفس بصمته الهادية، بطريقة عرض مختلفة، شاشة على الأرض؛ تعرض فيديو قصير جدا أشبه بال چي آي إف لجسم يسقط متهاويا على الأرض.

 

“عمر جبر”

ظهرت بصمة جبر المعهودة في عمله برضه، أظن دي أول مرة أشوف جبر بينتج فيديو، فيديو مربك ومستفز وهزلي كأعمال جبر اللي واخدين عليها لكن بوسيط مختلف المرة دي.

 

“طارق راضي”

معظم أعمال راضي بتصيبني بالدهشة والصمت في آن واحد، عادة الدهشة بتصاحبها الأسئلة، لكن أعمال راضي بما تبدو عليه من بساطة وما تحويه من عمق؛ دوما ما كانت تأخذ مني لحظات لاستيعابها وهضمها عشان اقدر اتفاعل معاها.

تحقيق للمعادلة الصعبة، قد إيه واضح وقد إيه عميق.

 

عمل راضي كان أول عمل شفته أول ما دخلت المعرض، “إن العروس جميلة جدا وهي مستوفية لجميع الشروط لكنها متزوجة فعلا”، عمل رمزي جميل، خلاني أفكر عن نظرة القائمين ع المعرض من مكان ومنسقين وفنانين لرموز القضية والمصطلحات المستخدمة في التعبير عنها، من منظور نسوي؛ لسه بنشوف استخدام للتعبيرات البطريركية في ما يخص “إغتصاب” الأرض أو عدم وجود “الرجل المنقذ” اللي هيحرر الأرض “الست الجميلة” ويرد لها “شرفها”.

ومن نفس المنظور دا حسيت إنه ينفع استخدم تعبير غير صوابي سياسيا وأقول ع المعرض إنه كان “سرعة قذف” ناتجة عن فورة ثورية جميلة بدون ما أحس بتأنيب ضمير!

 

وغير الأعمال المميزة القليلة جدا جدا؛ وصلني شعور غامر وأنا بحضر المعرض، مجموعة من الفنانين بين جيلي الملنيالز وجيل زد، على قلب واحد وآراء واحدة تجاه قضية بتجمعنا كلنا باختلاف اعمارنا ومرجعياتنا وايدلوجياتنا..

معرفش لو كنا محتاجين نعمل المعرض دا عشان نستنتج السطر السابق.. أظن دا بالفعل واضح على أكتر من صعيد زي التفاعل على السوشيال ميديا مثلا، لكن بعض النظر عن التفاصيل السابقة، يحيا الروح الواحدة والقلب الواحد دول وتحيا فلسطين. مين قادر يعمل حاجة مختلفة عن كدا!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *