باعترافاتهم! – مراجعة لعرض “أعزائي الأطفال” وحوار مع مخرجه سالڤاتوري كاتالدو

الملنيل

“النهاردا جاي أقولكم إزاي الأرض المقدسة تحررت من الإرهابيين”

جملة بينتهي بيها عرض سالفاتوري كاتالدو “أعزائي الأطفال”..
جملة صادمة هايلة! بتقول إننا محتاجين نقرا التاريخ بعين مختلفة ونعرف ونعلن ونواجه مين اللي بيكتبوه، عجبني إن العرض إنتهى بإن فلسطين انتهت وبيقول سالفاتوري الجملة السابقة كبيان/ عنوان للي هيتكتب في التاريخ، التاريخ اللي بيكتبه اللي معاهم السلطة على الرواية.
مين هما الإرهابيين؟ دا السؤال اللي كان بيحاول العرض يودي إنتباهنا له.
ما بين ثوار إيطاليا وحرب أوكرانيا وروسيا وتنتهي بفلسطين والصهاينة، عجبني اختيار كاتالدو للأمثلة التلاتة، المثال الأول من أصله وتاريخه كفنان إيطالي، ومثالين معاصرين، مثال تعاطف معاه العالم ومثال أهمله العالم وغض بصره عنه عن قصد.
العرض دا هو إنتاج طبيعي للتنوع الثقافي اللي عند كاتالدو كإنسان وكفنان.

كمصرية شفت من طفولتي مشاهد قتل الأطفال والشيوخ وتعذيب النساء، مظنش إني لو كنت فكرت أنتج عمل فني كان هيكون في نعومة عرض كاتالدو، بل على العكس، رأيي إنه مينفعش إننا نعمل فن في ظل اللي بيحصل دا، وأي كلام عن المقاومة بالفن بيعتبر سذاجة بالنسبة لي وقلة أدب أحيانا، إزاي أرقص أو أغنى عن ناس هما حالا بيموتوا بأصعب وأبشع الطرق الممكنة!
دا ميراثي.. دي أفكاري ودا المكون الثقافي بتاعي اللي طلع من الطفلة اللي شافت محمد الدرة بيتقتل جنب أبوه والعالم متهزلوش شعره.
لكن ماذا عن تفكير الراقص الأبيض الأوروبي؟
أعرف سالفاتوري من ٤ سنين تقريبا، إحنا أصحاب قريبين واشتغلنا سوا، طول الوقت بشوف سالفاتوري مصري جن! وعمري ما فكرت أبدا في أي محادثة بينا إنه أجنبي ومش هيفهمني.. والله بحس دا مع المصريين بتوع إيجيبت لكن عمري ما حسيته مع سالفاتوري. لحد ما شفت صورة لسالفاتوري على إنستجرام متحزم بالكوفية الفلسطينية وبيرقص بلدي وحد منقطه بدولارات محشورين في الحزام!
اتعصبت وبعت الصورة لصديقنا وقلت له إيه دا هو إزاي يعمل كدا!
لكننا عارفين سالفاتوري كويس، واستنيت لما جه مصر وشفت العرض بتاعه اللي طلع منه الصورة اللي استفزتني دي.

وأنا بتفرج على العرض مكنتش متفاجئة طبعا إن إيه دا هو سالفاتوري معانا وبيدعم القضية! طبعا لأ، دي حاجة مكنش عندي شك فيها مع إن عمرنا ما إتكلمنا عنها، لكن كان عندي تساؤلات أعمق شوية من مع ولا ضد.
إزاي كاتالدو استخدم رموز زي الكوفية والآذان والرقص البلدي والمقارنة بين حرب روسيا وأوكرانيا وحرب الصهاينة وفلسطين.
ليه العرض بينتهي بإنه بيوزع على الجمهور أشلاء أطفال في أكفان! فعل أدائي عنيف جدا، ليه بتوجهلي دا وأنا بالفعل بشوفه، مش بعيشه لايف لكني شوفته مسجل كل يوم من سنين. لحد ما بدأت افكر إن العرض مش موجه لينا أصلا، العرض موجه للمواطن الأبيض، وهنا بدأت استمتع بالرحلة/ العرض.
إزاي فنان أبيض بيعمل عرض بيستخدم فيه رموز وأدوات عربية عشان يوجه رسالة للمواطن الأبيض، وقد إيه مثير إني اتفرج على العملية دي من برا، قررت أقعد اتفرج.. قررت أعيش التجربة دي.
ماذا لو بقيت مشاهد أبيض لمدة ساعة واحدة؟ مدة عرض “أعزائي الأطفال”.

حظي كان سعيد إني كنت بحضر العرض واللاين اللي قدامي كله حضور أجانب من دول مختلفة، كنت بتفرج إزاي هي تجربة صعبة عليهم إنهم ياخدوا أكفان الأطفال الموتى اللي كاتالدو كان بيوزعها عليهم، منهم اللي رفضوا يمدوا إيدهم أصلا وكانوا مزعورين، إزاي كانوا مكسوفين طول مدة العرض، إزاي كانوا متنحين، إزاي مكانوش قادرين يضحكوا في المشاهد اللي كان فيها ضحك وتسقيف.. الفرجة عليهم كانت ممتعة بقدر كبير مقدرش أنكر دا.

مبدئيا استغربت مكان العرض وهو المعهد الفرنسي بالقاهرة، استغربت عشان كلنا عارفين موقف فرنسا من القضية وفي أي صف فرنسا واقفة فعنصر المكان كان مثير بالنسبة لي كتجربة للحضور فيه.

العرض والقصة والتتابع والدراما كلهم مظبوطين، متحسش بالملل لحظة، وبرغم كوني متابعة لشغل سالفاتوري كصديقة له ومعجبة كبيرة بأعماله وبرغم شغلنا سوا المستمر من أربع سنين ولحد دلوقتي إلا إن العرض فاجأني وكان مبهر بالنسبة لي. التطور والحضور الواعي الذكي وخفة الدم والشطارة في استخدام السينوغرافيا من ديكور وإضاءة وإكسسوارات وموسيقى. بين النصوص والأداء والرقص، كانت تجربة مفعمة بمشاعر كتير رقيقة وجميلة بالنسبة لي كمتفرجة.

بيقوم كاتالدو بأكتر من دور في العرض، أهمهم ويمكن أجملهم كان دور المدرس الأبيض اللي بيعرفنا ويشرحلنا تاريخنا، برافو لكاتالدو إنه قدر بشجاعة يمثل الدور دا بشكل أقرب حقيقي ومكثف وكاشف.

حبيت اتكلم مع سالفاتوري بعد العرض، اشاركه انطباعاتي الأولى ونتناقش في الأفكار والسياق والسردية اللي بيقدمها العرض.

 

حوار مع سالفاتوري كاتالدو:
فاطمة: أول حاجة عايزه اتكلم معاك عنها هي مشهدين الرقص البلدي اللي في العرض، ليه اختارت ترقص بلدي مش دبكة مثلا أو أي نوع رقص تاني فلسطيني؟ ليه اختارت تلبس الكوفية الفلسطينية كحزام لوسطك؟ ماحسبتش إن دا ممكن يكون مشهد مستفز للجمهور العربي؟

سالفاتوري: جالي تعليق في أول ليلة عرض في مصر من صديقة إن المشهد دا ممكن يتفهم غلط، قالت لي إحنا عارفينك وعارفين إن إنت متقصدش كدا بس خلي بالك..
لما عملت بروفا مفتوحة لجمهور في تركيا، في مكان تابع لرقاصة ومعلمة عظيمة اسمها نسرين توبكابي دي زي سامية جمال في مصر مثلا، وهي تضايقت من المشهد دا فعلا وقالتلي فهمني إيه دا.
الحقيقة إنتي عارفه إني بحترم الرقص البلدي وحسيت إن المشهدين دول في سياقهم كانوا بيقدموا تباين أو اختلاف في الأداء أنا كنت محتاج أعرضه، المزيكا اللي كانت عاجباني كانت بلدي وكمان حسيت إن المشهدين دول ممكن يكونوا متنفس ليا وللجمهور من العرض التقيل دا.. بس يمكن أفكر ألاقيله بديل أحسن وأقوى..

فاطمة: بالعكس، أنا شايفه إنه في مكانه مظبوط جدا، باخد بالي إن عادة من أهم الموضوعات اللي المستعمر بياخد باله منها عند الناس اللي هيستعمرهم هو عنصر الجنسانية، كسبيل للفهم ويمكن طريقة للتحجيم والتلجيم أحيان تانية، يمكن الكيان الصهيوني بتستخدم دا حاليا من خلال حملات الغسيل الوردي بإنهم على سبيل المثال المكان الوحيد في الشرق الأوسط اللي بيسمح وبيرحب بوجود مجتمعات الكويريين. لذلك حسيت وجود المشهدين دول في العرض مناسبين وبيعملوا هايلايت على القصة دي من ناحية تانية.
كمان مش شرط عشان إنت “راجل” إنك لازم ترقص دبكة أو أي رقصة “رجالي” ممكن ترقص بلدي وتكون بتقاوم..

سالفاتوري: النعومة فيها قوة. أنا دايما بعرف الشخص اللي على حق والشخص المعتدي بالأداء، صاحب الحق بيتكلم بهدوء، زي لما تشوف فلسطيني بيتكلم عن قضيته، حقيقي الطاقة بتختلف، الأنعم في الغالب بيكون هو صاحب الحق، بيكون واعي أكتر ومسالم وعنده كرامة. كان ممكن أدخل دبكة لكني مبفضلش الرسايل المباشرة، لكن حبيت الجدل والتعليقات اللي جم على مشهدين الرقص البلدي.

فاطمة: إيه الدافع اللي خلالك تحس إنك عايز تعمل العرض دا؟

سالفاتوري: مبدئيا حسيت إن محدش هنا هيقدر يعمل كدا، هنا بقصد بيها الفنانين المعاصريين المصريين، الوضع صعب، فيه المكتئب والمفلس واللي معندوش فكرة، حصلت معايا أو قدامي خلافات كتير بين فنانين عشان “مش هينفع إننا نغني أو نرقص أو نمثل والناس بتموت” بس أنا مش في إيدي إني انقذ أطفال غزة أنا فنان وعايز فني يكون موجود وتكون دي طريقة خدمتي للقضية، وكنت عايز أثبت إن الفن له تأثير، كنت بحاول مأحبطش.. كنت بحاول اشتغل، على الأقل لو فلسطين هيجي يوم وتتنسي فأنا عايز أطول المدة اللي هنفضل فاكرينها فيها، بالنسبة لي هي دي الكرامة، مش شرط إني اقدر أرجع الأرض، دا مش في إيدي وللأسف بقى صعب إنه يحصل، لكن إن كل حد فينا يقاوم بطريقته دا مهم، إني اترفض من مسارح واتخانق مع مجموعات وفنانين أنا معنديش مشكلة، دي مقاومتي وتضحيتي في سبيل القضية الفلسطينية، أنا كدا مبسوط!

عندي صديق من وأنا في عمر الـ ١٦ سنة، صديقي فلسطيني عرفني على القضية وعشتها معاه من وقتها ولحد دلوقتي، من وقتها بقرا وبفهم وزرت فلسطين، فمش معنى إني إيطالي/ أوروبي إني مش من حقي أقاوم أو ع الأقل أعبر عن اعتزازي ودعمي للقضية الفلسطينية. أنا مكسوف إن بلدي بتدعم الإحتلال وإني ضرايبي جزء منها بيروح لدعمهم.
إحنا اتربينا على إن اليهود ضحايا، و ده صحيح في إطار ما، لكن محدش قالنا حجم اللي حصل في العراق على يد أمريكا، بيحصل انتزاع إنسانية لكل من هو عربي، فيحصلي صدمة من اللي بيحصل في أوكرانيا لكن متصدمش من اللي بيحصل في فلسطين!

كان مهم بالنسبة لي إني كحد مش عربي أقول السردية دي، يا جماعة أنا أهو مش منكوا بس ممكن أحس بيكوا وأدعمكم. أنا عيشت في أماكن كتير، إيطاليا وألمانيا وفرنسا وأمريكا ومصر وتركيا وغيرهم.. ويمكن دا كان واضح في العرض، إني حاولت أجمع سردية معظم الأماكن دول.
العرض موجه للشخص الأبيض، العربي مش محتاج إني أجي أعرفه قضيته، يعني المكسب الوحيد بالنسبة لي هنا إن العرب يكونوا عارفين موقفي لكن العرض رسالته موجهة للشخص الأبيض. كرسالة جاية من واحد زيي.. من أبيض لأبيض.. أعتقد إن دي حاجة كويسة ومهمة، بالعقل يا جماعة الواحد مش لازم يكون عربي عشان يفهم ويتعاطف!
أي إنسان عنده حق إنه يعيش في بلده وجوا حدود بيته بأمان، أنا بحاول أقول للأبيض اللي زيي متقفلش عينيك.

فاطمة: العرض كان فيه متضادات كتير ودا شئ عجبني جدا، منهم لما عملت دور الشخص الأبيض المانح اللي بينزل يوزع على الناس المعونات وبعدين عملت شخص تاني اتحزم بالكوفية ورقص بلدي بشكل شهواني ونزل لم الفلوس دول تاني. عجبني أوي إنك استخدمت نص مشابه للنصوص أو البيانات اللي بيطلعها الحكام البيض وقت الأزمات المشابهة.

سالفاتوري: أنا عارف إنتي عايزه تقولي إيه هههه، أنا كنت قاصد الـ cultural appropriation والـ exotic approach اللي كان واضح في المشهد دا، وكنت عايز احط سبوت على فكرة إنه قد إيه خلوا العرب معندهمش رفاهية المقاطعة لأن مخلوش مجال يكون في منافسين أو سلع بديلة.
يمكن كمان يكون الشخص اللي في المشهد التاني دا شخص عربي مظلوم محتاج يعمل كدا عشان يعيش، ودا بنشوفه بيحصل بشكل مش قليل مع فنانين عرب في أوروبا.

فاطمة: الرسالة الصوتية اللي بعتهالك صديقك الفلسطيني اللي إنت حطيتها في العرض وكان محتواها إنه بيديك الحق إنك تشارك كلامه ومعاناته وإنك تستخدمها في عرض، شغل بالي السبب إنك تشغل رسالة الـ consent دي في العرض أكتر من مرة كمان مش مرة واحدة.

سالفاتوري: وأنا شغال عن العرض كنت بسأل عليه طول الوقت وكان بيبعتلي التسجيلات دول، مكانتش نيتي إني استخدمهم في الأول لكن مع الوقت والشغل على العرض قلت ليه لأ! وبعتت له استأذنه إني استخدم التسجيلات دول وهو وافق ورحب وقال لي لو تحب ابعتلك كمان هبعتلك.. تخيلي!
أنا قلت هو إيه دا! يعني الراجل عايش في رعب وتهديد بالقتل ٢٤ ساعة ولسه عايز يساعدني في العرض بتاعي! دا خلاني أحس أكتر بالمسؤولية إني عندي صوت لازم استخدمه في توصيل رسالته ومعاناته وقضيته.

فاطمة: أنا دايما بهزر معاك إنك حبيب كل الناس في السين ومعندكش مشاكل مع حد وهو تاسك تحقيقه صعب يعني في السين دا! لما حضرت العرض كنت متخيلة إني هلاقي كل الناس حاضرين، مش بس عشان صحابك لكن عشان كنت متخيلة إن أي شخص هيكون مهتم يشوف الراجل الأبيض دا بيتكلم عن قضيتي ويقول إيه! لكن دا برضه محصلش، تفتكر ليه؟

سالفاتوري: أنا تليفوني بيرن قليل اوي! ومكنتش متخيل إن كتير منهم هيهتموا يحضروا غير لو الموضوع كبر شوية أو عمل دوشة، لكني راضي بالحضور وبالفعل فيه أكتر من فنان حضروا العرض ودا باسطني، بس يعني عندك حق.. اللي حصل دا بيقول حاجة.. مش عارف بيقول إيه لكنه أكيد بيقول حاجة معينة!
ممكن يكون بيقول إني أنا لسه أجنبي بس انا دايما كنت أجنبي في بلدي كمان.
ولسه متحمس أعمل العرض برا وجوا مصر عشان مهم الرسالة دي توصل.

أخيرا ودا المهم، عايز أقول إني بقالي كتير معملتش عرض صولو، لكني مبسوط على الصعيد الشخصي إني قدرت اتحدي صفاتي الكمالية في إني أطلع العرض دا وبصورة كويسة.

 

شكرت سالفاتوري على حوارنا، شكرته على العرض الجميل ومشاعره وإحساسه بالمسؤولية، شكرته لإنه لسه محافظ على إنسانيته. العرض فعلا جميل، فنيا وإنسانيا، عرض صولو بالكامل، سالفاتوري كان بيعمل كل حاجة من أول فك وتركيب الديكور والنصوص والحركة والرقص والاكسسوارات، ممثل وكاتب وراقص ومصمم حركة موهوب وشاطر وذكي.
سالفاتوري دلوقتي بيلف العالم يعرض العرض دا ويتكلم عن القضية الفلسطينية.
شكرا للفنان سالفاتوري كاتالدو متعدد المواهب ومتعدد التخصصات إنه قدر يعمل دا في وسط كل اللي بيحصل وكل التهديدات اللي ممكن تكون قابلته في رحلته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *