فيلم لم أشاهده بعد

الملنيل

 


كتابة: ماجدة محاسنة/  أيلول ٢٠٢٠ – فيينا 

رسوم حسين الأزعط

 

سنين مضت على أخذ قرار الهجرة إلى بلد خارج الأردن. أذكر مرّة عندما أقلّني صديق مقرّب في سيارته، حينها كنت تحت وطأة ضغوطات لم أعد أذكر مصدرها الآن. سألته بدون تفكير قبل وصولي الى البيت: “ماذا تفعل عندما تشعر بالملل الشديد؟ أين تذهب؟” أجاب بشكل عادي جدًا لم يحتمل برهة من التفكير “لا شيء… أشاهد فيلم ممكن”. حينها أدركت اني بحاجة للتغير، في تلك اللحظة، وددت أن تكون لي حياة فارغة من أي ضوابط وتعقيدات يمكن أن تخلخل أصالة كل ما أفعل. هي لحظة الحقيقة التي يستنفر فيها شعورك بالإحباط ويدفعك لتأخذ قرار خاص وفردي تحبو إليه بكل جدّية. 

 

 لم أشعر حينها بأنني أطمح لتحقيق إنجاز ما، كنت فقط أبحث عن ما هو أبسط من ذلك؛ مصادر معرفة واطلاع وفيرة أسيّرها بطريقتي وبتأثير من لا أحد، وفرص يمنحها المكان وتعززها مدنية المجتمع بنسق تامّ. لم يكن قراري لحظوي بحت، أدركت في مواقف حقيقية آنفة بأني سأغادر. هي حاجة ملحّة للتعلم، فضول لمعرفة الآخر وثقافته. وددت إعادة تشكيل هويتي. مشاهدة فيلم لم تكن حتمًا خيار مرضٍ حينها.

 

في الأسابيع الأولى من وصولي، أماط القلق اللثام عن مشاعر اختبرها للمرّة الأولى في حياتي. نوبات من الهلع والشعور بعدم الأمان، بالرغم من أنني أعيش في بلد لا يوجد فيه ما يهدد أمني، إلا أن حالة من عدم الثقة والتوتّر انتابتني حينها. كان خطابي الهدّام المستمر هو: “أنا لا أعرف شيء هنا… ماذا لو؟…” تنهال بعدها احتمالات لامتناهية مترعة بالقلق لم أعرف سبيلاً للتملّص منها. لم يدم الحال طويلاً، فسرعان ما أصبحوا زملاء الدراسة همّ المشتت والمخرج وجزء رِئيس من يومي وتجربتي الاجتماعية بالعموم. صرت أكثر قدرة على رؤية محيطي الجديد بوضوح.

 

تعرّفت على أشخاص من جنسيات متنوّعة، سافرت إلى بلدان شتّى؛ كنت دائماً ما أخوض نقاشات ممتعة مع كل من أقابل، اسمعهم جيّداً، أسأل بحساسية وفضول، وأشاهد كل ما يتعلّق بثقافتهم وإرثها الحيّ بكثب. أصبحت حياتي حصيلة رحلات قصيرة أخوضها في سياقات لا حصر له. محطّات تبدأ بمشاهدات أكوّنها في أوساط جديدة -والتي لا تنفك أن تزداد باطّراد- أجرّدها من أي إسقاطات شخصية؛ فأتبنّى ما يلائمني منها. إعادة تعريف جذرية لماهية انتماءاتي وأين تقبع وباب جديد أفتحه أمام المزيد من المجهول، فيغدو بذلك صديقي المعلوم. 

 

بالرغم من رفضي بأن أكون فرداً من مجتمع موازي لا يطمح للاندماج، إلا أنني لم أتقن اللغة بعد، سأتفرغ لذلك حتمًا! لم يشكّل ذلك عائق حقيقي أمامي بوجود لغة ثالثة مشتركة وهي الانجليزية؛ فذلك مؤشر واعد على انفتاح الآخر على ثقافات أخرى، فاللغات المحكية في دول أوروبا غالبًا ما يرتئي أصحابها لتطويرها والحفاظ عليها، بعكس ما يحدث للغة العربية الآن. نقاشات كانت بمثابة كسر للاطار المكاني وايذان بلقاء عالمين مختلفين يمزجهما فضول مشترك. 

 

ساعدني التواصل مع الناس هنا على تكوين فهم واضح عن النسيج الاجتماعي و العلاقات الانسانية. عرفت أن الحرية هي مفتاح حقيقي وفرصة ثمينة ليتناول الإنسان فردانيته فيصدّر منها ما يحب. كنت مهتمّة بشكل خاص بالمرأة وطريقة تناولها للمفاهيم والممارسات الشخصية بحياتها. فضول يقودني للبحث جيدًا عن معرفة الأغلال التي ما زالت تقيّدها حتى في دول العالم الأكثر حداثة وتقدّم. تعرّفت على مواطن السلطة الذكورية ومساعي التمرّد عليها. بحثت في ممارسات أفراد العائلة والنظام المجتمعي وقواعد احترام الفروق العمرية وهوية الطفل الوظيفية في محيطه. وكسلوك طبيعي جدًا، بدأت بعقد مقارنات عديدة بين الحال في الأردن والحال هنا، ليُسفر ذلك عن تسامح أحيانًا، حنق في أوقات أخرى، وفهم شامل لكلا المجتمعين في المحصّلة. 


الآن، أنا ابنة هذه البيئة الجديدة التي تزخر بكل ما تفرزه رفاهية الحرية الشخصية التي أملك؛ فأضحت اكتشافاتي المستمرة بين الهُنا والهناك هي نقطة ارتكازي في فهم نفسي وما حولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *