ملنيل ع الآخر
منصــــــــــة الكترونيـــــــــة تناقـــــــــش موضوعــــــات جيـــــل الملنــيل بنيــــــلة
السفالة كمرآة للسلطة: قراءة في مشهد “عمرك شفت سفالة أكتر من كده؟”- كتابة فاطمة الزهراء
يُعدّ فيلم معالي الوزير (٢٠٠٢) واحدًا من أبرز أعمال الكوميديا السوداء في السينما المصرية، إذ جسّد أحمد زكي شخصية رأفت رستم، المسؤول الذي وجد نفسه وزيرًا بمحض الصدفة، ليتحوّل إلى رمز للعبث والفساد داخل منظومة السلطة. وبين مشاهد الفيلم الكثيرة، يظل مشهد واحد بجملة قصيرة قالها أحمد زكي عالقًا في ذاكرة الجمهور: “عمرك شفت سفالة أكتر من كده؟”
شاهدت الفيلم للمرة الأولى البارحة، أن تأتي متأخرًا خير من ألا تأتي. كنت أعرف الجملة من الميمز ومن فيسبوك، لكن لم أكن أعلم أن معالي الوزير كان يقولها عن نفسه!
لحظة تكثيف العبث
يأتي المشهد في مرحلة يكون فيها رأفت قد استقر في منصبه لسنوات، محاطًا بمظاهر التبجيل والتمجيد الزائف. مساعد وفيّ، حاشية واسعة، ووليمة بحرية يجود بها على من حوله، ليظلوا مدينين له بالفضل طوال فترة خدمتهم له.
ما شدّني في الجملة أنها تكثيف لمعنى الفيلم بأسره: الفساد في الصغر كالنقش على الحجر، يبدأ صغيرًا ثم يترسّخ، التضحية بالكرامة باعتبارها واجبًا، ووعود المستقبل التي تبرّر التفريط في أثمن ما يملك الإنسان. السلطة التي تأتي بالصدفة، والجماهير التي تبيع كرامتها طواعية أمام الكرسي.
الازدواجية المرة
المفارقة أن رأفت رستم يؤكد “سفالة” من حوله عبر تأكيده على سفالته هو نفسه. لعلها المرة الوحيدة التي يعترف فيها معالي الوزير بسفالته، تلك التي نراها بوضوح في خط الكوابيس الموازي البديع، حيث تتجسّد أمامنا مخاوفه ونتائج أفعاله. لكنه، في الحقيقة، غارق حتى أذنيه في اللعبة؛ لم يحاول يومًا تغييرها أو رفضها، بل انغمس فيها واستمتع بمكاسبها. من هنا تصبح الجملة اعترافًا ضمنيًا بأن الجميع فاسد “لا استثني منكم أحدا” بمن فيهم من يتظاهر بالاستنكار.
دلالة اجتماعية وسياسية
المشهد يعكس شبكة من العلاقات المأزومة: بين الحاكم والمحكوم، بين الانتهازي والفرصة، بين الانتهازي والضحية، وبين الانتهازي وولائه الأعمى. لحظة وصول يقابلها دائمًا تهديد بالعزل. وفي النهاية: دائرة مغلقة من النفاق والفساد، يعيد كل طرف إنتاجها بدرجات وتنويعات مختلفة، لكنها جميعًا تؤدي إلى نفس المصير.
الجملة إذن ليست مجرد سخرية من الآخرين. استخدامها كـ “ميم” ينتزعها من سياقها ويُفرغها من معناها. فهي في جوهرها فضيحة لمجتمع كامل يرى “السفالة” يوميًا، يعترف بها ويتماهى معها، بدل أن يواجهها ويسعى لتغييرها. مجتمع يعتبر “السفلة” هم “أهل الثقة يا فندم”.
قوة الأداء
بأداء أحمد زكي، تحوّلت الجملة إلى لحظة أيقونية. نبرة صوته، حركة عينيه، تقطيع عبارته، وإصراره على تكرار السؤال على مساعده الوفي للحصول على الإجابة المنتظرة، كل ذلك جعل الاعتراف يجمع بين السخرية والمرارة. وهكذا تجاوزت الجملة كونها تعليقًا عابرًا لتغدو أيقونة تحمل ثقل التراجيديا السياسية.
الخاتمة
في النهاية، جملة “عمرك شفت سفالة أكتر من كده؟” ليست مجرد طرفة أو “ميم” متداول، بل هي قلب الفيلم النابض. لحظة عابرة تختصر حكاية السلطة في مصر آن ذاك: كرسي يُمنح بالصدفة، مجتمع ينافق طوعًا، ووزير يضحك على “السفالة” بينما يغرق فيها. إنها الكوميديا السوداء في أبهى صورها، تكشف أن أخطر ما في الفساد أننا نراه، نضحك عليه، نعتاده، ثم نتعايش معه.
“اقسم بالله العظيم، أن احترم هذه الصدفة
أن احترم هذه الغلطة التي جعلتني وزيرا
وأن احسن استغلالها
وأن احافظ مخلصا على ثبات أقدامي وسلامة منصبي
وأن أبذل قصارى جهدي لخدمة هذا الشعب..
الشعب المكافح”
رحم الله وحيد حامد، كان عندنا سينما..
رحمها الله هي الآخرى!