ملنيل ع الآخر
منصــــــــــة الكترونيـــــــــة تناقـــــــــش موضوعــــــات جيـــــل الملنــيل بنيــــــلة
فيلم “الحارة” الأردني: كوميديا سوداء في جبل النظيف
كتابة: ماجدة محاسنة
*تنويه:مقال رأي وليس مراجعة فنية وسينمائية؛ تتحدث فيه الكاتبة عن تجربتها مع الفيلم الأردني “الحارة”، دون الخوض بأحداث الفيلم.
أنا عن نفسي
أبغض الطبقية! أملك حساسية مفرطة أكاد أن أُجحف فيها كل من يخونه تعبيره في الحديث عن تجربته الاجتماعية في وسط يعتبره أقل تنوّرًا وتقدمية؛ محدثًا لغط فادح وتعميم غير مقبول عن من ينتمون لطبقة اجتماعية “غير غنيّة”.
توجّس عند السماع عن مشروع فني أو مبادرة مجتمعية تزحف بها مؤسسات دولية أو محليّة “مرموقة” ومدعومة من الخارج كي تتسلق على معاناة ساكني “الحارة” بغية تسليط الضوء على همومهم، محاولة بذلك استنهاض حلول لمشاكل “الناس البسيطة”.
من الواضح أنني على علاقة وثيقة بنفسي. يعني، أنا أعلم ما لا أحب، كالطبقية مثلاً، وأعلم جيدًا جدًا ما أحب. أنا محبّة ومتذوقة للفن، طبعًا ضمن أهوائي ومزاجي وشروطي ونقدي الحنون أحيانًا واللاذع أحيانًا أخرى كثيرة. أحب الموسيقى، المسرح، الكتب، الفن البصري، وفي قاعدة الهرم: السينما. لا حُب أكنه بشكل مطلق لنوع محدد من الفنون، يأخذني وقت طويل كي أفكك المادة الأدبية إن كانت كتاب مثلاً، وأحتاج لزيارات متكررة للمتحف أو المعرض الفني لاختبار وقع اللوحة أو المنحوتة وقوة حضورها في نفسي ضمن فترات زمنية أخلقها باصرار كي أتأكد من أصالة التأثير.
السينما وإن كانت آخر وأندر خياراتي الفنية في التناول، فهي ذات تأثير يسحبني معه لأيام من التفكير. تتسلسل مشاهد اي فيلم اشاهده إلى حياتي بلقطات عشوائية تفرزها ذاكرتي في اللاوعي في مواقف مختلفة دون آي صلة منطقية. قررت وبعد تأجيل متكرر يبرره حماسي المتواضع تجاه السينما، ونَفَسي القصير أمام اي تمثيل ضعيف ومشاهد جوفاء أن أذهب مع صديقة لي لمشاهدة فيلم أردني اسمه “الحارة”.
مهمّة صعبة
المجازفة بساعتين من الوقت أقضيهم في صالة مغلقة أمام شاشة كبيرة تكاد أن تبلعني لكبر حجمها لن يُعزّيني فيهم سوى فيلم يسرقني فلا أشعر بالوقت. الخروج لمشاهدة فيلم عربي هي مجازفة للكثير غيري من محبي السينما المستقلة أو الأفلام الأجنبية كالإيرانية أو الإسبانية أو الإيطالية. من الممكن أن تكون مجازفة لمحبي الأفلام الهوليوودية أو حتى الكرتونية (Animation). لا نملك من الحماس ما يكفي لزيارة دور السينما ومشاهدة فيلم عربي نتأمل أن يكون مكتمل العناصر، ونرتجي أن يحترم ذكائنا أو حتى يضحكنا بدون تهريج وبهلوانات تقفز وتتنمر على الآخر في سبيل الإضحاك.
اخترت مشاهدة فيلم الحارة والذي أخرجه “باسل غندور” مستوحيًا قصص من الشارع جسّد أحداثها ممثلين أغلبهم مغمورين، عرفت منهم اثنين من أصدقائي بمحض الصدفة البحتة. صرّح باسل بأنه لم يسكن قط في حارة من قبل، وبأنه سمع العديد من القصص في شوارع الأردن فقرر تحويلها إلى فيلم إثارة يحكي فيه تلك القصص ضمن قالب كوميديا سوداء. ساعتين من الوقت استدعوا شلال من الأسئلة في رأسي، أوّلهم وأهمهم “وين الأحداث؟ احنا بعمّان أو شارع شعبي بالمطلق؟.”
دائمًا ما نُفتّش عن صلة بين العمل الفني وتجاربنا الحياتية، إن كانت عاطفية أو اجتماعية. كل عمل فني لديه ما يقدم لضغط زر ما فينا، أو استجرارنا لاسقاطات يستفزها دون هوادة. في صالة السينما، أضعت بوصلتي فلم أعد أعلم أين أنا وأين هي أحداث الفيلم! ساعتين من الاستتارة في واقعية الأحداث. هل هي مستوحاة من قصص واقعية في أحياء شرق عمّان (الشوارع في الفيلم أعرفها جيدًا)، أم أنه واقع بالمطلق علينا التخيّل أنه موجود بتلك البشاعة؟ أحداث تدور في بيوت متراصة أعتبرها مرآة أصيلة لعمّان وانعكاس واقع حال النسبة الأكبر من ساكنيها. هناك “الأزعر” والذي جسّد دوره ببراعة شديدة الممثل الأقرب للوحش بشكله وأدائه “منذر رياحنة”، وجماعته من أصحاب السوابق، الشاب الحبّيب ومحاولاته للتمرّد والخروج بحبيبته من الحارة والذي مثل دوره “عماد عزمي”، صديقه في الحارة الممثل الواعد جدًا وصاحب الأداء الثابت في كل مساحة دور نالها في الفيلم “محمد الجيزاوي”. شخوص وحكايا قدّمها الفيلم بقالب كوميدي أسود ومرّ، ومشاهد دامية صعبة لم أستطع رؤية الكثير منها مخبئة وجهي بين كفيي. بالرغم من حالة التوجّس العامة التي أصابت الكل في صالة العرض نظرًا لصعوبة بعض المشاهد، وانحراف الأحداث لمنعطفات غير متوقعة، إلا أن اختيار المخرج لتقسيم أحداث الفيلم وعنونة كل منها مستعينًا بالمصمم “حسين الأزعط” كانت بمثابة نفس نلتقطه بين الحين والآخر. خطوط وعناوين فرضت نفسها على الشاشة ورمت بسنارتها كل حاضر فينا لتسحبه إلى “اسطنبول” وأماكن وأحداث أخرى.
سحاب وجبل النظيف
اختيار موفّق جداً من المخرج لممثل بقدرات منذر رياحنة، المحترف بأدائه وبحديثه عن الفيلم في المحافل والمهرجانات؛ فعندما سؤل رياحنة عن شعوره بتقديم عمل أردني مغاير لما يعهده الناس عنه في المصري، أجاب “الفنان يرتقي لمرحلة السحاب، ما اله علاقة بالحدود، الحدود هم اللي رسموها”. نحن أمام إنسان وممثل لا يؤمن بحدود عمله ويفرض مصداقية (مقصودة كانت أم غير مقصودة) يشبه فيها ما استعرضه الفيلم من واقعية جبل النظيف، والذي لم يترك رياحنة أي فرصة في مقابلاته التلفزيونية إلا واغتنمها مشيداً بدور أهلها في مساعدته على تقديم الشخصية، شاكرًا وممتنًا لهم مرارًا وتكراراً. الحديث عن الفيلم ورؤيته وتأثر الممثلين بتجربتهم في وسط كجبل النظيف لا يقل أهمية عن اي رسالة يحملها الفيلم، ذلك سيحققه وعد المخرج باسل غندور لأهالي جبل النظيف بعرض الفيلم لهم ودعوتهم للمشاهدة، متأملين أن تكون تلك المبادرة بمثابة جسر يخلقه صناع الأفلام في عمّان بين شرقها وغربها فنصبح أكثر صلة وتناغم.