ملنيل ع الآخر
منصــــــــــة الكترونيـــــــــة تناقـــــــــش موضوعــــــات جيـــــل الملنــيل بنيــــــلة
طز في الفصحى – فاطمة الزهراء
كتابة: فاطمة الزهراء
ساعات في نص يومي بتأمل كلمة من العامية المصرية، وبحب ألعب مع نفسي لعبة صغيرة: يا ترى الكلمة دي ليها مقابل كلمة واحدة برضه في الفصحى أو في الإنجليزية؟
غالبًا المقارنة اللي بتشدّني هي بين العامية والفصحى أكتر من العامية والإنجليزية.
من فترة كنت في ورشة من ورش الكتابة اللي بدرسها وخضنا نقاش بحب افتحه عادة في معظم الوقت.. ليه بنفضل الكتابة بالفصحى عن العامية؟
كتير بشوف على جودريدز تعليقات لقرّاء يقيّموا كتاب ويعجبهم جدًا، لكن يقرروا ينقصوا نجمة كاملة لمجرد إن النص مكتوب بالعامية مش بالفصحى!
طب ليه؟ ليه العامية المصرية، اللي هي الوسيط اليومي الأول للتعبير، دايمًا محطوطة في مرتبة أقل من الفصحى؟
اقترحت وقتها على المشاركين في الورشة يلاقوا كلمة واحدة موازية لـ “مزمزأة” في الفصحى. قعدوا يفكروا ويقترحوا بدائل، لكن كانت دايمًا ناقصة. لأن “مزمزأة” في الحقيقة ميكس بين كذا كلمة منهم الضجر والتأفف، وكمان فيها صورة حركية: “الفرك” أو محاولة تدوير السبب لحد ما يختفي. كلمة معبّرة جدًا، كأن الشخص قاعد في طاسة ميه بتغلي، أو زي ما بنقول “مش قاعد على بعضه”. صورة بديعة جدًا، تكعيبية بيكاسو خالص!
من يومين كنت سهرانة بفكر في كلمة “شحططة” وبرضه ملقيتلهاش مقابل في كلمة واحدة.
نمت وصحيت خدت شاور وقعدت افكر والمياه فوق دماغي في جمال تعبير “الدنيا مش سايعاني” وكمان إننا شبه بطلنا نستخدمه وهو شئ جميل الصراحة، لأنه تعبير ضخم جدًا جدًا ويعني إحنا مش ناقصين أفورة!
كنت بتناقش مع والدي عن اللغة، وسألني: “تعرفي يعني إيه طز”؟
وحكالي قصة كانت بتحصل زمان، في أيام الدولة العثمانية، كان المرور من بوابات الجمارك بيحتاج دفع رسوم، لكن لو الشخص رايح شايل ملح، مكنش عليه جمارك، لأن الملح وقتها كان مادة زهيدة جدًا. فكان التجار يرشوا على وش بضائعهم ملح ويعدوا، الموظف يسأل التاجر: إيه اللي معاك؟ يرد: “طُز” (يعني ملح).
ومع الوقت، بقى المعنى مرتبط بالحاجة التافهة اللي “مالهاش قيمة”، ومن هنا تحولت بالعربية العامية إلى كلمة تهكمية أو استخفاف. فأهو، كلمات أصلية بتعرفنا على التاريخ حتى لو مكانتش عربية أو أصلها عربي، لا فصحى بقى ولا عامية.
افتكر في طفولتي كنت بحب اللغة العربية وشاطرة فيها جدًا، وعلى عكس معظم أصدقائي كنت بستنى حصة النحو وكنت شاطرة فيه جدًا. السر كان إني كنت بذاكر لغة من المصحف، كل أسبوع مدرس العربي بتاعي كان بيركز معايا على صفحتين، بنفهم منهم معاني وتراكيب لغوية جديدة، وبيكون الواجب بتاعي إني أعرب الصفحتين دول لحد الأسبوع الجاي. استفدت جدًا واتعلمت كتير بالطريقة دي.
مش بحاول أقول إن العامية أفضل من الفصحى ولا بحاول أحط الاتنين قصاد بعض في مقارنة أصلًا لأن يمكن ولأسباب مختلفة وللغرابة يمكن نفس الأسباب كمان ألاقيني بنتصر للفصحى مقابل العامية!
على سبيل المثال: الهوية والعمق الثقافي، بنلاقي إن الفصحى بترتبط بالتراث العربي كله: شعر، روايات، فكر، تاريخ، والتراجم طبعًا. أي نص مكتوب بالفصحى بيقدر يربط القارئ مباشرةً بسلسلة طويلة من الأدب والفلسفة الممتدة عبر القرون. لكن نقدر نعرف كتير عن ثقافة البلد من لغة الشارع لأبناء شعبها، وهنا بنكتشف أهمية العامية.
على صعيد الانتشار والجمهور الأوسع، الفصحى مفهومة في كل الوطن العربي، وده بيخلي النص يتجاوز حدود الجغرافيا المحلية. وبرغم إنه يُشاع إن العامية غالبًا مرتبطة بمنطقة محددة، فبتقلل من مساحة الانتشار والتأثير. إلا إن بالنسبة لنا كمصريين أو بالنسبة للعامية المصرية فدا مش ماشي أوي بل بالعكس.
من كام سنة لما كنت في تونس، وقابلت أخت صديقتي لأول مرة، ولسه بقول أول كام جملة وبتعرف عليها وبنسلم، لقيتها بتبص لي وبتضحك جدًا، فاستغربت وسألتها، قال لي: “سوري بس إنتي بتتكلم زي عادل إمام بالظبط!”.
وبالنسبة للشرعية والاعتراف، زي ما وضحت في ملحوظة جودريدز، الأعمال المكتوبة بالفصحى بيتم التعامل معاها باعتبارها “أدب” أو “نصوص جادة” أكتر من العامية. حتى المؤسسات الثقافية والتعليمية بتنشر وتوثق الأعمال المكتوبة بالفصحى. لكن التوجه دا بدأ يتغير آخر كام سنة. كمحاولة للتمسك بلهجة كل بلد وكمحاولة لتوثيقها لأنها وسيط متغير كل كام سنة.
الفصحى فيها مفردات دقيقة ومعاني متعددة بتسمح بتفكيك الأفكار المعقدة والتعبير عنها بوضوح. فنقدر نعتبرها ثرية بالطبع، لكن المرونة فالعامية تكسب، أحيانًا بتفتقر للألفاظ الدقيقة العامة آه، وكنتيجة للتجريف الثقافي ولأكتر من سبب تانيين بقينا بنلجأ للاستعارات أو الاقتباسات من لغات تانية. لكن كون دا برضه جزء من العامية فهو توثيق أنثروبولوجي لسبب طريقة كلامنا بالشكل دا في الوقت دا. لأن شئنا أم أبينا، تحمل العامية حساسية الواقع وصوت الناس الحقيقي أكثر من الفصحى.
في النهاية عايزه أقول إن العامية مش خصم للفصحى، ومش بديل، هي أسلوب موازي بيعبر عن طبقات مختلفة من الحياة. وجودها بيغني القدرة على التعبير بالعموم والمشهد الأدبي بالخصوص بدل ما يهدده.
الفنون المعاصرة ويمكن الحديثة كمان دليل، الشعر الغنائي، الأغاني، المسرح، الكوميديا، السينما… معظمها بالعامية. دا بيثبت إنها قادرة تحرك الوجدان وتوصل لشرائح ضخمة. فالعامية بتفتح المجال لمشاركة أوسع في إنتاج الثقافة. إدخال العامية في الشعر والرواية والمسرح عمل ثورات أدبية (زي بيرم التونسي، صلاح جاهين، أحمد فؤاد نجم).
الكتابة بالعامية في ذاتها أحيانًا بتكون فعل ثوري واضح كمان، لأنها كتابة بصوت الطبقات الشعبية اللي طول الوقت مهمّشة في النصوص الرسمية. وإعادة اعتبار لجمهور “كركشنجي دبح كبشه..”.
كل لهجة عامية بتميز مجتمعها: المصري، اللبناني، المغربي… إلخ. بتدي للنص نكهة خاصة وأصالة مرتبطة بالمكان. وفهم كبير لتاريخه أنثروبولوجيًا، ليه التوانسة لهجتهم أقرب لليبيا مش الجزاير؟ ليه العامية المصرية بتختلف بإختلاف الطبقات والمحافظات؟ إزاي التليفزيون اللبناني بيقدر يعرض الأفيهات الأبيحة دي عادي جدًا على عكس التليفزيون المصري اللي بيحاول يقول حرفين مش كلمتين وبالمتداري؟…. وغيرها كتير من أسئلة اللي مفيش حاجة بتجاوبها غير تجربة إنسانية بحتة خالصة، والجميل/ المميز/ المدهش إن الواحد يقدر يغير رأيه فيها كل شوية ويفضل يحس إنه تمام مش غريب. ونكتشف إن الاتنين الفصحى والعامية مكملين بعض، وبيخلوا لغتنا العربية، بكل تفرعاتها، عايشة وحقيقية.