أبو وديع والفن المربك – مونيكا منصور

الملنيل

يأتيني هاجس مساءً بسماع أغنية “سهرت الليل” لچورج وسوف أو كما يحب أن يلقّبه مُحبّيه “أبو وديع”. اشاهد اليوتبوب باحثًا عن تكملة كلمة “سهرت..”، فيظهر لي الكثير من اختيارات/ اقتراحات السهر، يبدو أن الجميع مرهق وله أسبابه.

أختار رائعة جورج وابدأ بالإنصات له. علاقتي بالفنان قليلة التعقيد انتقلت معه من الكره الشديد والعداء غير المبرر كمراهقة لا تعرف أن تسيطر على الأمور إلى شابة تعشق سماع أغانيه وتتعجب من أي شخص لا يستمع له
“معقولة ما بتسمعش أبو وديع!”

أكبر واكتشف أن الكثير منّا قد مر بنفس التحول، أو هو في إحدى الطريقين.
إما لا يطيق سماع صوته “المحشرج” أو يتوق لحضور حفلة من حفلاته ليتسلطن بشكل مباشر. سماع الاغاني لمطربينا المفضلين لا يطربنا ولا يمس أحزاننا فقط، ولا يبهجنا ويمتعنا فقط ولكنه أيضًا يجعلنا أكثر قربًا لمن يغني، فنسعى دائمًا لتتبع سيرته ومعرفة عائلته وأخباره، وبالتأكيد تطوراته الفنية والاجتماعية. لا شك إن ذلك الفنان الذي يطربنا وننتظر سماع كل ما يسر القلب عنه قريب مننا، يعرفنا ويحبنا كما نعرفه، هل يرانا؟ هل يتشوق لمعرفة المزيد عنا؟

لا أعلم، ولكنني أعلم جيدًا إن الود يمكن أن يكون متبادل يومًا ما. وبما إننا لا نعيش في عالم وردي خالي من المشاكل والأحداث السياسية والحروب، فربما أحياناً نريد أن نعرف القليل عن من نحب من الفنانين والمطربين فيما يخص آرائهم السياسية.

وأحيانًا أخرى لا تفضل أن تعرف شيئًا فيأتيك الرأي والخبر كالصاعقة دون أن تسأل أو يدفعك حتى فضول المعرفة، هكذا هو التعامل مع السوشيال ميديا!
جورج فنان سوري الجنسية ولكنك ستسمع صوته في معظم ميكروباصات جمهورية مصر العربية، من أهم محبيه وجمهوره بالمناسبة. خيار متوقع ومهم لمعظم سائقي الحافلات من مطلع التسعينات تقريبًا.

شيء ساخر للغاية أن تجد نفسك مطرب فئة مختلفة في بلد مختلفة ولكن هكذا الحال في مصر فهي حاضنة لكل الفنون والثقافات، وأعتقد أن أبو وديع تفهم الموقف جيدًا واحترم جمهوره المصري وقدم له الكثير من الأغاني ليستمتع بها، فضلاً عن إعادة غناء بعض اغاني الست وعبد الحليم بمزاج شديد وتمكّن مبهر.

عند سقوط الأنظمة الحاكمة أو في وقت الثورات والأزمات المشتعلة، يلعب الإنترنت لعبته المفضلة في إنه “يخش يجيب سطر الجلاليب من جوا” ويقوم الجميع بفتح الدفاتر ومحاسبة الفنانين والممثلين والنقاد عن آرائهم السياسية وخضوعهم للأنظمة الحاكمة السابقة وما يتبعها من ظلم لعامة الشعب. تظهر صورة جورج وسوف على التايملاين متبوعة بالسباب واللعنات للرجل الذي لم يحترم عمره ولم يحترم موتى وأطفال المجاعة في مضايا بسوريا في بداية عام ٢٠١٦، وقام بنشر صورة وهو يأكل السوشي وأمامه قارب خشبي عملاق مليء بالسوشي بما لذ وطاب.

تختلف الفرق بين مؤيد ومعارض، وبين محب مفتون يدافع عن مطربه حتى النهاية وبين كاره يدعو عليه بالموت والمرور بنفس الجوع والعذاب.

ترتبك مشاعري تجاهه، ماذا عليّ أن أفعل؟ هل أقاطعه كما أقاطع البضائع الأمريكية والداعمة لإسرائيل؟ هل اشارك في حملة السباب على فضاء الإنترنت؟ هل اتوقف عن سماعه؟ وهل توقفي عن سماع جورج وسوف سيجعله يتراجع عن أفعاله؟ وهل أفعاله تنتظر المراجعة من جمهوره أم من نفسه فقط؟

أحزن قليلاً لأنني توسمت الخير  المطلق دون النظر إلى إنه إنسان مثلنا جميعًا، ولأن الإنسان كلما يتقدم في العمر كلما كثرت محاولاته للتقرب من المنطق، أو هكذا كنت أظن.

الكثير من الأسئلة لا ولن يجبها عليّ أحد، ولا إجابة على أي سؤال منهم ستجعلني اتوقف عن التساؤل.
لماذا نضع الفنانين في قوالب مثالية تمنعهم من الخطأ؟ لماذا نبرر لهم أفعالهم أو نشيطنها؟ لا أعلم عما كان يفكر

فيه جورج بينما كان يتلذذ بالأكل أمام الكاميرا، لا اعلم لماذا قرر أن يوثق ذلك بصورة، وعلى الأرجح لن أعلم.

أتذكر أيضًا الفنان الرائع أو كما أسميه “الإرهابي التائب” فضل شاكر. كيف لأشخاص يتغنون بالحب والسهر والفراق والمرارة أن يذهبوا من النقيض للنقيض في حياتهم الشخصية؟

أتذكر حزني الشديد على فضل وقت سماع اخبار انضمامه لجماعة إرهابية. كيف ليد اعتادت أن تتأثر من شدة الإحساس بلحن جميل أو تشاور لمُعجب على خشبة المسرح  أن تقتل وتتوعد وترهب؟
في جميع الأحوال سعدت كثيرًا بعودة “فضل” بعد غياب طويل بعدة أغاني رقيقة تشبهه وتشبه إحساسه، وأكثر سعادة بعودته إلى نفسه من طريق مجهول كان يسير به وحيدًا.

بدا “فضل” متخبط وبعيد عن نفسه عندما أعلن اعتزاله عام ٢٠١٢، ومن ثم في الفيديوهات التسجيلية المنتشرة عقب إعلانه مباشرة عن الانضمام للجماعات المتشددة، التي يتوعد فيها للتائهين والكافرين. بدا هو نفسه تائه ومنفصل عن “فضل” الهاديء الذي يُسمعنا “يا حياة الروح” و”يا غايب”. أتساءل يا ترى كيف ينظر “فضل” الآن لتلك المرحلة في حياته، وهل تبرئة القضاء اللبناني تعني بالضرورة الحصول على البراءة من جمهوره؟

لا أعرف كثيرًا مع تلك الفترة، ولكن جل ما أتمناه ألا يكون قد قتل نفس وقتها.

لا نمتلك الفنان ولا يمتلكنا هو الآخر. ولا نأمل أن يكون لنا نصيب في التدخل في حياتهم الشخصية زيادة عن اللزوم، وكأن شهرته ومحبة الناس يأتي معها عقاب الانتهاك والتتبع ومحاسبته على كل صغيرة وكبيرة. لا يمكن لأحد أن يصمد في وجه أحكام مُعجبينه أو الناس طوال الوقت، ولكن تلك النظرة بعين المحب لربما تجعلنا في حالة حداد على ما كنا نتمناه لهذا الإنسان، هذا الإنسان فقط بعيدًا عن كونه أي هوية أخرى.

هل يرى حبيبنا “جورج” الأمر من هذا المنظور؟ هل يعرف محبوب الكثير أو الإرهابي التائب الذي أحب “فضل” إنه مثل الجميع مغفورة له خطاياه إن عاد؟ هل يعرف إنه كان ضالاً وعاد لرشده واستعاد إنسانيته؟

 كيف نستطيع أن نفصل الفنان عن مواقفه وآراءه؟ وكيف للفن، وحده، أن يسبب لنا كل هذا الارتباك؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *